كانت حياة لينة منذ الطفولة سلسلة من النعومة والترف ومن الأهازيج الحلوة التي ترسم لها الدنيا بفرشاة لاتعرف سوى اللون الوردي، ذلك اللون الذي يضفي الفرح والشفافية على قلبها. نعم، ففتاة وحيدة في عائلة كل إنجابها من الذكور لهي دمية مدللة لكل العائلة.. الجد والجدة.. والأعمام.. الأخوال.. منذ نعومة أظفارها إن تعثرت تجد ألف يد تجري إليها. إن بكت تجد ألف يد تمسح الدمعة التي قد تخدش تلك الوجنات الجميلة.. كل شيء بين يديها..
لم يفهم أحد أنها تتمنى أن تلعب في الطين وتجري وراء الفراشات، لكم حسدت (سعيدة) ابنة المربية على ماتملك من حرية.. كم تمنت أن تضحك من قلبها مثلها، أن تتلطخ وجنتها بالغبار.. أن تتسلق أشجار الفاكهة لتحضر ثماراً لم تنضج بعد.
لم تشعر يوماً بقيمة الحياة لأنها لم تذق منها سوى حلوها...
والآن أين أنا؟ ها أنا وحيدة في بيت مليء لكني لاأشعر بطعم الحياة.. فقد أجبرت على قطع صلتي بها.. نعم يوم أن عدت أجرُّ ورائي أذيال الخيبة وأحمل في يدي ورقة تثبت أنني لاأستحق سوى ما أنا فيه من ترف يقتل كل طعم للحياة.. ورقة تثبت أنني لاأصلح أن أكون زوجة بعد عام واحد من زواجي الذي تم بطريقة أسطورية..
ليتهم تركوني أتعثر حتى أتعلم كيف أنهض وأبدأ من جديد.
نهضت إلى الدولاب.. فتحته تحسست بشوق ذلك الغلاف الأبيض الذي يغلف ثوباً ما. أغلقت الدولاب وجلست، حتى المهنة التي أحببت أن أمارسها حرمت منها باسم الحب.
تذكرت الفرحة التي ملأت البيت يوم قبولها لدراسة الطب.. أقيمت الولائم والحفلات.. ومرت سنوات الدراسة كأنها حلم وجاء يوم التخرج.. كم ظلت تخمن هدية النجاح: أكيد عيادة أطفال في وسط المدينة.. أو ربما مستشفى أو...
يومها أفاقت على صوت سعيدة زميلتها في الكلية وابنة مربيتها تناديها لتطلب منها حذاء تحضر به حفل التخرج...
تنهدت بعمق.. يومها لم تكن ترتدي ما أرتديه من ملابس ثمينة.. لم يُقَم لنجاحها الولائم.. لم تفتح مستشفى أطفال باسمها.. لم يكن في انتظارها فارس أحلام..
لكن الفرحة كانت تتراقص في عينيها، تكاد تضيء بشرتها السمراء. نعم لم تمتلك كل هذا ولكنها امتلكت قرار نفسها.. حرية الاختيار.. ترى أين هي الآن؟
رفعت سماعة الهاتف.. أدارت القرص، طلبت المستوصف الخيري الذي عملت فيه سعيدة بعد التخرج
لينه: الطبيبة سعيدة حسين من فضلك.
رد عليها صوت نسائي: الطبيبة سعيدة في عطلة وضع منذ أسبوع.
لينه: ممكن عنوان البيت من فضلك.
الصوت: عنوان المستوصف نفسه، الدور الثالث.
طلبت من والدها أن يرافقها.. حاول التخلص من المشوار.
تعجّب: ولم السرعة؟ فعندما تعلم بعودتك ستأتي إليك!
أجابت: لقد ولدت منذ أسبوع يا أبي وليس لها أقارب بعد وفاة والدتها.
تردد وحاول إثناء عزمها ولكنها أصرت فوافقها على مضض.
وصلت الحي الشعبي ورأت المستوصف المكون من شقتين في حي متواضع يعج بالسكان.
الناس تبتسم في وجوه بعضها.. ابتسامة رضا برغم أن أوضاعهم تدل على صعوبة حياتهم. أول مرة تمر بتلك التجربة وكأنها قادمة من عالم آخر ..
المستوصف برغم بساطته إلا أنه نظيف.. في المدخل آية قرآنية {وأما بنعمة ربك فحدث} تقابلها صورة لمنظر طبيعي بسيط.
أمام شقة (سعيدة) وجدت العديد من النساء البسيطات يحملن أولادهن، ورن في أذنيها دعوات خرجت بصدق تدعو لها بالسلامة والبركة في مولودها.. أسرعت بالدخول هرباً من نظراتهن التعجبية فطريقة لباسها تدل على أنها ليست من هنا.. وكذلك صندوق الحلوى الفاخر الذي تحمله.
اقتربت منها، مازالت كما هي تعلوها ابتسامة صافية تنير بشرتها السمراء.. لم تصدق عينيها فهي تعلم أنني على بعد مئات الكيلومترات.
لينه: حمداً لله على سلامتك.
سعيدة: سلمك الله أيتها (اللينة الطيبة)- هكذا كانت تمازحها منذ سنوات الدراسة- هل أتى زوجك معك.. حدثيني عن أخبارك بالتفصيل.
لينه: ليس الوقت مناسباً.. جئت لأكون بجانبك ولكني وجدت حولك العديد من القلوب الطيبة.
سعيدة: الحمد لله.. محبة الناس فضل من الله يالينة.
استأذنتْ على وعد بزيارة قريبة.
دخلت غرفتها بعد أن عادت، لم تتكلم مع أحد.. بدأت تراجع نفسها. ماالذي حدث.. لماذا استسلمتُ للفشل؟ لماذا لم أقاوم وأحاول التغيير؟
تذكرتْ (حاتم) زوجها أو الذي كان.. لم يعرفها جيداً.. فتاة جميلة متفوقة من عائلة كريمة توسم فيها الزوجة التي ستملأ حياته سعادة.. وأنا أيضاً لم أعرفه جيداً. طبيب ناجح من عائلة كريمة؟ أخلاقه رفيعة.. ماجذبني إليه أكثر أنه استطاع الحفاظ على هويته الإسلامية في المجتمع الغربي الذي عاش فيه سنوات عديدة..
دخلت الأم: لينة!! حبيبتي.. مازالت الحياة أمامك.. ماحدث ليس بالنهاية، بالتأكيد لايستحقك لأنه لو عرف قيمتك مافرط فيك.. لكن العائلة كلها تعرف كيف تثأر لكرامتك..
لينه: أرجوك ياأمي كفى.. أرجوكم لا أحد يتدخل في هذا الموضوع.
أسرعت الأم بتهدئتها: نعم ياحبيبتي لكن لاتتضايقي.
لينه: أمي أرجوك دعيني وحدي مللت التعامل وكأنني طفلة.
مر شهران ونسيت تماماً موعدها مع سعيدة إلى أن جاء يوم فاجأتها هي بالزيارة.
كم أسعدتها تلك الزيارة: أين ابنتك؟
سعيدة: تركتها مع جدتها أم والدها، وقد أسميناها (يمنى).
سألتها لينة في حزن: هل اتصلت بك ماما؟
سعيدة: نعم فيها الخير لم تنسني.
لينه: لم أنسك ياسعيدة ولكن لم أحب شغلك بمشكلتي
سعيدة: كيف حدث ذلك يالينة؟
لينة: تسألينني وكأنك لم تتوقعي لي الفشل!
سعيدة: نعم لم أتوقع ذلك... بل ظننت أن الفرصة واتتك لتتخلصي من القيود الحريرية التي تقيدك باسم الحب.. وخاصة عندما علمت أن الدكتور حاتم هو زوجك.. كنت على يقين أنك تريدين أن تعيشي حياة بسيطة ترسمين أنت ملامحها مع مَنْ قسمه الله لك.. أخبريني ماحدث؟
ضحكت لينة في سخرية: «أكيد لايستحقني» كما تردد الوالدة على مسامعي كل يوم.
سعيدة: دعك مما تقوله الوالدة وأخبريني أنت لماذا أضعت الفرصة من يدك؟ وخاصة أن زوجك ممن حباهم الله بالجمع بين العلم الشرعي والدنيوي.. لقد سمعت أنه داعية إسلامي هناك!
انفجرت لينة باكية ومن خلال دموعها قالت: نعم والله ياسعيدة لم أر منه إلا كل رجولة واحترام.. حتى عندما صممت على الانفصال لم أجد ألطف منه فقد صبر كثيراً على عدم إلمامي بشؤون المنزل.. بل إنه حاول تعليمي بعض الأشياء.. (ابتسمت) كم كنت سعيدة.
قاطعتها سعيدة: فماذا حدث؟ ولماذا لم تحاولي الإمساك بخيوط تلك السعادة وتمتين نسيجها قبل أن تفلت منك؟
انحدرت قطرات من الدمع على وجنتيها اللتين لم تعرفا طعم الدموع من قبل وقالت في مرارة: تعليمات الوالدة التي لم تتخيل أن دميتها الجميلة يمكن أن تكون مسؤولة في يوم من الأيام عن حياة بكل متطلباتها.. لاتدعيه يفعل ذلك.. لاتهيني نفسك. مازلت صغيرة على الحمل.. لم نزوجك لتعملي خادمة.. احذري أن يشعر بلهفتك عليه حتى لايتكبر عليك.. وأشياء كثيرة من هذا القبيل كانت تدفعني للخلف خطوات كلما تقدمت نحوه خطوة، وهكذا ظلت خطواتي حائرة بين ماأريد وما يريد أهلي.. إلى أن جاء يوماً وسألني: لم تزوجت إن لم تكوني مستعدة لتحمل مسؤوليات الزوج والحياة والإنجاب؟
ضرب على الوتر المؤلم في حياتي وتر خطواتي الحائرة أردتُ وقتها أن أرتمي على كتفيه وأبكي وأخبره أنه كل حلمي، بيت وحياة أحياها بكل مافيها من حلو ومر.. ولكني انتقاماً لكرامتي التي ظننتها خدشت لم أع إلا وأنا أخبره في تعالٍ: أنني هكذا وليس عندي أي نية للتغيير ولست مستعدة للإنجاب فما الحل؟
انصرف عني في لين وبعد عدة أيام أخبرني بمنتهى اللطف والأدب أننا سنسافر عطلة بسيطة لبلدنا وكان حديث أمي قد ملأ رأسي..
فطلبت أن ننفصل وأصررت على ذلك فما كان منه إلا أن لبى طلبي وأخبرني أنه لم يُعِبْ عليّ خلقاً ولكن كرامته تأبى أن يعيش مع امرأة لاتريده.. وأخبرني عن موعد سفره.
عدتُ إلى قلعتي الحصينة أجر ورائي أذيال الخيبة التي يراها أهلي انتصاراً لكرامتي.. هذا كل ماحدث ياسعيدة.
سعيدة: دعك من كل هذه الحجج بل أنت من أحببت كونك أميرة والكل لابد أن يسعى لإرضائك.. لم يكن لكلام أهلك تأثير لو كنت مقتنعة بخلافه.. لينة أنت السبب وليست أمك فأنت اعتدتِ من يكفكف دموعك دوماً ويقول: سمعاً وطاعة.. لاتنكري أنك أحببت زوجك ولكن خشيت إن شعر بحبك أن يكف عن تدليلك والعطف عليك.. اسمحي لي: لقد أخطأتِ فالزوج إن أحس بحب زوجته واهتمامها النابع من إيمانها بحقه عليها امتلكت قلبه ووجدانه.
كان يجب أن تكوني لينة الإنسانة التي تعيش الحياة بكل أبعادها وليست الدمية المدللة.
تقاطعها: كفى أرجوك ياسعيدة فقد عرفت كل هذ بعد طول تفكير خلال الشهرين الماضيين.
سعيدة: أمرك عجيب يالينة! فما الذي يمنعك إذاً من الذهاب إليه والتحدث معه؟
لينة: ماذا تقولين؟ أذهب إلى بيتَه؟ تتحدثين مثله عندما طلب من أبي أن أبقى شهور العدة في بيته ولكن كرامتي أبت؟
اقتربت منها سعيدة وأحاطتها بذراعيها: بل تذهبين إليه في بيتكما معاً.. أما عن الكرامة فهل هناك كرامة تعارض شرع الله.. إنما هو الشيطان الذي يكون أسعد مايكون عندما يفرّق بين زوجين. من الشرع يالينة ألا تخرج المطلقة الرجعية من بيت الزوجية إلا بعد انقضاء العدة المشروعة وهي ثلاثة شهور.. فقد يكتب الله لهما الإصلاح.
لينة: ولكن ماذا يقول عني؟ وماذا تقول والدته التي تعيش معه؟ وماذا عن أبي الذي أصبح يعده عدواً لدوداً؟
سعيدة: كل هذا ليس مهماً وسبب عداء والدك له شعوره أنه خدش كبرياء مدللته الوحيدة. لاتضيعي الفرصة تعضي بعدها أطراف الندم.. أيام العدة لم تنته بعد.. فإن أردت معرفة القيمة الحقيقية للحياة عليكِ اللحاق بركبها.
لينة: وبماذا أخبر أهلي؟
نظرت سعيدة إلى ساعتها وهمت بالانصراف قائلة: أهلك ياعزيزتي كل غايتهم سعادتك، وعندما يتأكدون من صدق غايتك لن يعارضوا.
غادرت سعيدة بعد أن فتحت لها بصيصاً من الأمل: نعم أنا المسؤولة الأولى عن فشلي ولابد من مواجهة حقيقية.
انتظرت والدها- الذي يدخل غرفتها كعادته بمجرد أن يدخل- قال باسماً: كيف حال درة عمري؟ ماشاء الله أراك اليوم مشرقة؟!
جرت إليه.. قبلت يديه: الحمد لله ولي عندك طلب.
الأب: طلبات- حبيبة قلبي- أوامر.
نكست لينة رأسها وقالت بصوت خفيض: بعد إذن حضرتك أريد العودة إلى بيتي.
انتفض غاضباً: ماذا تقولين؟ بعد ماحدث تريدين له النيل من كرامتك؟ بل من كرامة العائلة كلها؟!
لينة: يا أبي أنا من طلبت الطلاق وأصررت عليه بعد أن رفضت الإنجاب.
فغرت الدهشة فاه: ماذا قلتِ رفضت الإنجاب؟ وكيف تصرفت هكذا؟ ولماذا لم تقولي ذلك منذ البداية؟
لينة: يا أبي لم تتركوا لي يوماً فرصة الخيار.. فاتخذت قراراً وأردت تحمل تبعاته.
الأب: يبدو أننا أخطأنا في تربيتك حقاً؟ وهل أمك على علم بتلك السخافات؟
لينة: أمي ليس لها دخل أنا وحدي المسؤولة.. أرجوك اعطني فرصة لمعرفة الحياة الحقيقية.. فرصة لتثبيت خطواتي على الطريق.
أطرق رأسه وخرج دون أن يتكلم.
ومرت الأيام وهي ترقب كل دقيقة تمر.. تتمنى أن تتوقف الأيام عن المرور حتى يجيبها والدها على طلبها ولكنه كان يتعمد عدم لقائها أو التحدث إليها.
بقي أسبوع فقط على انتهاء العدة.. أسلمت أمرها لله.
نادتها أمها: والدك يريدك في مكتبه.
طرقت الباب ودخلت.
لينة: أوامر حضرتك..
نظر إليها: هل تذكرين حديثنا من أسبوعين؟
لينة: نعم
الأب: وهل عنيتِ ماقلتيه؟
لينة: نعم.
الأب: وهل أنت متيقنة أنك تريدين العودة لذلك الولد والعيش معه كما يريد؟
لينة: نعم.
الأب: أفهم من ذلك أنكِ..
بخجل واضح: نعم يا أبي (أتمنى لو أراه حتى أعترف له بخطأي).. ولكن لِمَ تلك الأسئلة الآن؟ وَهَمّتْ بالخروج.
استوقفها صوت والدها: تفضل يادكتور حاتم.
استدارت ناحية باب المكتب المتصل بغرفة الاستقبال فوجدته يخرج باسما.
حاولت أن تجري هرباً من الموقف.. أمسك والدها بيدها قائلاً: هيا أنتما الإثنان ولا أريد أن أراكما إلا ومعكما حفيدي.. مفهوم؟
أفلتت يدها من يد أبيها: أبي أخجلتني!
ثم جرت بخطوات واثقة ها هي الحياة تفتح لها ذراعيها من جديد.
لم يفهم أحد أنها تتمنى أن تلعب في الطين وتجري وراء الفراشات، لكم حسدت (سعيدة) ابنة المربية على ماتملك من حرية.. كم تمنت أن تضحك من قلبها مثلها، أن تتلطخ وجنتها بالغبار.. أن تتسلق أشجار الفاكهة لتحضر ثماراً لم تنضج بعد.
لم تشعر يوماً بقيمة الحياة لأنها لم تذق منها سوى حلوها...
والآن أين أنا؟ ها أنا وحيدة في بيت مليء لكني لاأشعر بطعم الحياة.. فقد أجبرت على قطع صلتي بها.. نعم يوم أن عدت أجرُّ ورائي أذيال الخيبة وأحمل في يدي ورقة تثبت أنني لاأستحق سوى ما أنا فيه من ترف يقتل كل طعم للحياة.. ورقة تثبت أنني لاأصلح أن أكون زوجة بعد عام واحد من زواجي الذي تم بطريقة أسطورية..
ليتهم تركوني أتعثر حتى أتعلم كيف أنهض وأبدأ من جديد.
نهضت إلى الدولاب.. فتحته تحسست بشوق ذلك الغلاف الأبيض الذي يغلف ثوباً ما. أغلقت الدولاب وجلست، حتى المهنة التي أحببت أن أمارسها حرمت منها باسم الحب.
تذكرت الفرحة التي ملأت البيت يوم قبولها لدراسة الطب.. أقيمت الولائم والحفلات.. ومرت سنوات الدراسة كأنها حلم وجاء يوم التخرج.. كم ظلت تخمن هدية النجاح: أكيد عيادة أطفال في وسط المدينة.. أو ربما مستشفى أو...
يومها أفاقت على صوت سعيدة زميلتها في الكلية وابنة مربيتها تناديها لتطلب منها حذاء تحضر به حفل التخرج...
تنهدت بعمق.. يومها لم تكن ترتدي ما أرتديه من ملابس ثمينة.. لم يُقَم لنجاحها الولائم.. لم تفتح مستشفى أطفال باسمها.. لم يكن في انتظارها فارس أحلام..
لكن الفرحة كانت تتراقص في عينيها، تكاد تضيء بشرتها السمراء. نعم لم تمتلك كل هذا ولكنها امتلكت قرار نفسها.. حرية الاختيار.. ترى أين هي الآن؟
رفعت سماعة الهاتف.. أدارت القرص، طلبت المستوصف الخيري الذي عملت فيه سعيدة بعد التخرج
لينه: الطبيبة سعيدة حسين من فضلك.
رد عليها صوت نسائي: الطبيبة سعيدة في عطلة وضع منذ أسبوع.
لينه: ممكن عنوان البيت من فضلك.
الصوت: عنوان المستوصف نفسه، الدور الثالث.
طلبت من والدها أن يرافقها.. حاول التخلص من المشوار.
تعجّب: ولم السرعة؟ فعندما تعلم بعودتك ستأتي إليك!
أجابت: لقد ولدت منذ أسبوع يا أبي وليس لها أقارب بعد وفاة والدتها.
تردد وحاول إثناء عزمها ولكنها أصرت فوافقها على مضض.
وصلت الحي الشعبي ورأت المستوصف المكون من شقتين في حي متواضع يعج بالسكان.
الناس تبتسم في وجوه بعضها.. ابتسامة رضا برغم أن أوضاعهم تدل على صعوبة حياتهم. أول مرة تمر بتلك التجربة وكأنها قادمة من عالم آخر ..
المستوصف برغم بساطته إلا أنه نظيف.. في المدخل آية قرآنية {وأما بنعمة ربك فحدث} تقابلها صورة لمنظر طبيعي بسيط.
أمام شقة (سعيدة) وجدت العديد من النساء البسيطات يحملن أولادهن، ورن في أذنيها دعوات خرجت بصدق تدعو لها بالسلامة والبركة في مولودها.. أسرعت بالدخول هرباً من نظراتهن التعجبية فطريقة لباسها تدل على أنها ليست من هنا.. وكذلك صندوق الحلوى الفاخر الذي تحمله.
اقتربت منها، مازالت كما هي تعلوها ابتسامة صافية تنير بشرتها السمراء.. لم تصدق عينيها فهي تعلم أنني على بعد مئات الكيلومترات.
لينه: حمداً لله على سلامتك.
سعيدة: سلمك الله أيتها (اللينة الطيبة)- هكذا كانت تمازحها منذ سنوات الدراسة- هل أتى زوجك معك.. حدثيني عن أخبارك بالتفصيل.
لينه: ليس الوقت مناسباً.. جئت لأكون بجانبك ولكني وجدت حولك العديد من القلوب الطيبة.
سعيدة: الحمد لله.. محبة الناس فضل من الله يالينة.
استأذنتْ على وعد بزيارة قريبة.
دخلت غرفتها بعد أن عادت، لم تتكلم مع أحد.. بدأت تراجع نفسها. ماالذي حدث.. لماذا استسلمتُ للفشل؟ لماذا لم أقاوم وأحاول التغيير؟
تذكرتْ (حاتم) زوجها أو الذي كان.. لم يعرفها جيداً.. فتاة جميلة متفوقة من عائلة كريمة توسم فيها الزوجة التي ستملأ حياته سعادة.. وأنا أيضاً لم أعرفه جيداً. طبيب ناجح من عائلة كريمة؟ أخلاقه رفيعة.. ماجذبني إليه أكثر أنه استطاع الحفاظ على هويته الإسلامية في المجتمع الغربي الذي عاش فيه سنوات عديدة..
دخلت الأم: لينة!! حبيبتي.. مازالت الحياة أمامك.. ماحدث ليس بالنهاية، بالتأكيد لايستحقك لأنه لو عرف قيمتك مافرط فيك.. لكن العائلة كلها تعرف كيف تثأر لكرامتك..
لينه: أرجوك ياأمي كفى.. أرجوكم لا أحد يتدخل في هذا الموضوع.
أسرعت الأم بتهدئتها: نعم ياحبيبتي لكن لاتتضايقي.
لينه: أمي أرجوك دعيني وحدي مللت التعامل وكأنني طفلة.
مر شهران ونسيت تماماً موعدها مع سعيدة إلى أن جاء يوم فاجأتها هي بالزيارة.
كم أسعدتها تلك الزيارة: أين ابنتك؟
سعيدة: تركتها مع جدتها أم والدها، وقد أسميناها (يمنى).
سألتها لينة في حزن: هل اتصلت بك ماما؟
سعيدة: نعم فيها الخير لم تنسني.
لينه: لم أنسك ياسعيدة ولكن لم أحب شغلك بمشكلتي
سعيدة: كيف حدث ذلك يالينة؟
لينة: تسألينني وكأنك لم تتوقعي لي الفشل!
سعيدة: نعم لم أتوقع ذلك... بل ظننت أن الفرصة واتتك لتتخلصي من القيود الحريرية التي تقيدك باسم الحب.. وخاصة عندما علمت أن الدكتور حاتم هو زوجك.. كنت على يقين أنك تريدين أن تعيشي حياة بسيطة ترسمين أنت ملامحها مع مَنْ قسمه الله لك.. أخبريني ماحدث؟
ضحكت لينة في سخرية: «أكيد لايستحقني» كما تردد الوالدة على مسامعي كل يوم.
سعيدة: دعك مما تقوله الوالدة وأخبريني أنت لماذا أضعت الفرصة من يدك؟ وخاصة أن زوجك ممن حباهم الله بالجمع بين العلم الشرعي والدنيوي.. لقد سمعت أنه داعية إسلامي هناك!
انفجرت لينة باكية ومن خلال دموعها قالت: نعم والله ياسعيدة لم أر منه إلا كل رجولة واحترام.. حتى عندما صممت على الانفصال لم أجد ألطف منه فقد صبر كثيراً على عدم إلمامي بشؤون المنزل.. بل إنه حاول تعليمي بعض الأشياء.. (ابتسمت) كم كنت سعيدة.
قاطعتها سعيدة: فماذا حدث؟ ولماذا لم تحاولي الإمساك بخيوط تلك السعادة وتمتين نسيجها قبل أن تفلت منك؟
انحدرت قطرات من الدمع على وجنتيها اللتين لم تعرفا طعم الدموع من قبل وقالت في مرارة: تعليمات الوالدة التي لم تتخيل أن دميتها الجميلة يمكن أن تكون مسؤولة في يوم من الأيام عن حياة بكل متطلباتها.. لاتدعيه يفعل ذلك.. لاتهيني نفسك. مازلت صغيرة على الحمل.. لم نزوجك لتعملي خادمة.. احذري أن يشعر بلهفتك عليه حتى لايتكبر عليك.. وأشياء كثيرة من هذا القبيل كانت تدفعني للخلف خطوات كلما تقدمت نحوه خطوة، وهكذا ظلت خطواتي حائرة بين ماأريد وما يريد أهلي.. إلى أن جاء يوماً وسألني: لم تزوجت إن لم تكوني مستعدة لتحمل مسؤوليات الزوج والحياة والإنجاب؟
ضرب على الوتر المؤلم في حياتي وتر خطواتي الحائرة أردتُ وقتها أن أرتمي على كتفيه وأبكي وأخبره أنه كل حلمي، بيت وحياة أحياها بكل مافيها من حلو ومر.. ولكني انتقاماً لكرامتي التي ظننتها خدشت لم أع إلا وأنا أخبره في تعالٍ: أنني هكذا وليس عندي أي نية للتغيير ولست مستعدة للإنجاب فما الحل؟
انصرف عني في لين وبعد عدة أيام أخبرني بمنتهى اللطف والأدب أننا سنسافر عطلة بسيطة لبلدنا وكان حديث أمي قد ملأ رأسي..
فطلبت أن ننفصل وأصررت على ذلك فما كان منه إلا أن لبى طلبي وأخبرني أنه لم يُعِبْ عليّ خلقاً ولكن كرامته تأبى أن يعيش مع امرأة لاتريده.. وأخبرني عن موعد سفره.
عدتُ إلى قلعتي الحصينة أجر ورائي أذيال الخيبة التي يراها أهلي انتصاراً لكرامتي.. هذا كل ماحدث ياسعيدة.
سعيدة: دعك من كل هذه الحجج بل أنت من أحببت كونك أميرة والكل لابد أن يسعى لإرضائك.. لم يكن لكلام أهلك تأثير لو كنت مقتنعة بخلافه.. لينة أنت السبب وليست أمك فأنت اعتدتِ من يكفكف دموعك دوماً ويقول: سمعاً وطاعة.. لاتنكري أنك أحببت زوجك ولكن خشيت إن شعر بحبك أن يكف عن تدليلك والعطف عليك.. اسمحي لي: لقد أخطأتِ فالزوج إن أحس بحب زوجته واهتمامها النابع من إيمانها بحقه عليها امتلكت قلبه ووجدانه.
كان يجب أن تكوني لينة الإنسانة التي تعيش الحياة بكل أبعادها وليست الدمية المدللة.
تقاطعها: كفى أرجوك ياسعيدة فقد عرفت كل هذ بعد طول تفكير خلال الشهرين الماضيين.
سعيدة: أمرك عجيب يالينة! فما الذي يمنعك إذاً من الذهاب إليه والتحدث معه؟
لينة: ماذا تقولين؟ أذهب إلى بيتَه؟ تتحدثين مثله عندما طلب من أبي أن أبقى شهور العدة في بيته ولكن كرامتي أبت؟
اقتربت منها سعيدة وأحاطتها بذراعيها: بل تذهبين إليه في بيتكما معاً.. أما عن الكرامة فهل هناك كرامة تعارض شرع الله.. إنما هو الشيطان الذي يكون أسعد مايكون عندما يفرّق بين زوجين. من الشرع يالينة ألا تخرج المطلقة الرجعية من بيت الزوجية إلا بعد انقضاء العدة المشروعة وهي ثلاثة شهور.. فقد يكتب الله لهما الإصلاح.
لينة: ولكن ماذا يقول عني؟ وماذا تقول والدته التي تعيش معه؟ وماذا عن أبي الذي أصبح يعده عدواً لدوداً؟
سعيدة: كل هذا ليس مهماً وسبب عداء والدك له شعوره أنه خدش كبرياء مدللته الوحيدة. لاتضيعي الفرصة تعضي بعدها أطراف الندم.. أيام العدة لم تنته بعد.. فإن أردت معرفة القيمة الحقيقية للحياة عليكِ اللحاق بركبها.
لينة: وبماذا أخبر أهلي؟
نظرت سعيدة إلى ساعتها وهمت بالانصراف قائلة: أهلك ياعزيزتي كل غايتهم سعادتك، وعندما يتأكدون من صدق غايتك لن يعارضوا.
غادرت سعيدة بعد أن فتحت لها بصيصاً من الأمل: نعم أنا المسؤولة الأولى عن فشلي ولابد من مواجهة حقيقية.
انتظرت والدها- الذي يدخل غرفتها كعادته بمجرد أن يدخل- قال باسماً: كيف حال درة عمري؟ ماشاء الله أراك اليوم مشرقة؟!
جرت إليه.. قبلت يديه: الحمد لله ولي عندك طلب.
الأب: طلبات- حبيبة قلبي- أوامر.
نكست لينة رأسها وقالت بصوت خفيض: بعد إذن حضرتك أريد العودة إلى بيتي.
انتفض غاضباً: ماذا تقولين؟ بعد ماحدث تريدين له النيل من كرامتك؟ بل من كرامة العائلة كلها؟!
لينة: يا أبي أنا من طلبت الطلاق وأصررت عليه بعد أن رفضت الإنجاب.
فغرت الدهشة فاه: ماذا قلتِ رفضت الإنجاب؟ وكيف تصرفت هكذا؟ ولماذا لم تقولي ذلك منذ البداية؟
لينة: يا أبي لم تتركوا لي يوماً فرصة الخيار.. فاتخذت قراراً وأردت تحمل تبعاته.
الأب: يبدو أننا أخطأنا في تربيتك حقاً؟ وهل أمك على علم بتلك السخافات؟
لينة: أمي ليس لها دخل أنا وحدي المسؤولة.. أرجوك اعطني فرصة لمعرفة الحياة الحقيقية.. فرصة لتثبيت خطواتي على الطريق.
أطرق رأسه وخرج دون أن يتكلم.
ومرت الأيام وهي ترقب كل دقيقة تمر.. تتمنى أن تتوقف الأيام عن المرور حتى يجيبها والدها على طلبها ولكنه كان يتعمد عدم لقائها أو التحدث إليها.
بقي أسبوع فقط على انتهاء العدة.. أسلمت أمرها لله.
نادتها أمها: والدك يريدك في مكتبه.
طرقت الباب ودخلت.
لينة: أوامر حضرتك..
نظر إليها: هل تذكرين حديثنا من أسبوعين؟
لينة: نعم
الأب: وهل عنيتِ ماقلتيه؟
لينة: نعم.
الأب: وهل أنت متيقنة أنك تريدين العودة لذلك الولد والعيش معه كما يريد؟
لينة: نعم.
الأب: أفهم من ذلك أنكِ..
بخجل واضح: نعم يا أبي (أتمنى لو أراه حتى أعترف له بخطأي).. ولكن لِمَ تلك الأسئلة الآن؟ وَهَمّتْ بالخروج.
استوقفها صوت والدها: تفضل يادكتور حاتم.
استدارت ناحية باب المكتب المتصل بغرفة الاستقبال فوجدته يخرج باسما.
حاولت أن تجري هرباً من الموقف.. أمسك والدها بيدها قائلاً: هيا أنتما الإثنان ولا أريد أن أراكما إلا ومعكما حفيدي.. مفهوم؟
أفلتت يدها من يد أبيها: أبي أخجلتني!
ثم جرت بخطوات واثقة ها هي الحياة تفتح لها ذراعيها من جديد.
لا يوجد حالياً أي تعليق